” تبرلمانيت ” … نيت !
بقلم الأستاذ حسن برني زعيم
“أن تصير برلمانيا،في بلادنا، يجب أن تتخرج من أسرة برلمانية…” كلام غريب إلى درجة السخافة…لكنه بعيد ،نسبيا،عن السفاهة البرلمانية ، ذلك لأن تاريخ الوجوه البرلمانية عندنا يشهد بأنها تكاد تكون سلالية ، وهذا معنى القول: لايمكن أن تكون برلمانيا في المستقبل، إلا إذا “برلمك” أبوك في الماضي.. فينطبق ; عليك المثل : ” من أين هذا الشبل البرلماني … من ذاك الأسد البرلماني” ، فكل طفل عندنا يولد ، مثل جميع الرضع ، على الفطرة ، فأبواه “يُبرلٍمانه ” أو ” يُحزبانه ” أو ” يُنقبانه ” … بمعنى أن هناك سلالات برلمانية عاشت بإيقاع التوازي الممنهج مع سلالات حكومية ؛ وفي أوضاع تكاد تكون متناوبة ، بحيث إن السلالة الخارجة من أحد أبواب الحكومة تجد، أمامها ، إحدى نوافذ البرلمان مشرعة ، سواء قبل إحداث الغرفة الثانية أو بعده، وأما من أراد أن يتأكد من هذا الوضع الغريب والاستثنائي فما عليه سوى الرجوع إلى لوائح الوزراء والبرلمانيين والنقابيين منذ الاستقلال إلى اليوم، ويقارن بينها مقارنة بسيطة ، مع قليل من البحث في القرابات العائلية والدموية والحزبية والمصاهرة … وغيرها من أنواع القرابات وأشكالها .
لكن ، علينا ألا نجازف بالحكم على الناس كي لا يسجل في كتابنا الظلم الصريح، وما لنا من وسيلة لتبرئة أنفسنا سوى طرح التساؤلات التالية : ألا يمكن أن يكون تناوب هؤلاء على الحكومة والبرلمان من باب الصدفة ؟ أو لم تكن مراكز هؤلاء وأولئك مستحقة؟
ومهما يكن السبب ، وكيفما كانت السياقات السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية،فإن التساؤل عن سر “احتلال ” الوجوه نفسها وأفراد عائلاتها تلك المناصب يظل قائما ومشروعا ، خاصة حينما نربطه بأسئلة آخرى ” جميلة ” من قبيل : ماذا قدمت هذه الأسماء وعائلاتها للمواطنين ؟ ولماذا هذا الإصرار على دفء الكراسي وسخونتها ؟ ثم ما الغاية من الانتخابات والدستور والقوانين إن كانت لا تأتي إلا بالوجوه نفسها ؟
لعل هؤلاء القاعدين على الكراسي الحكومية أو البرلمانية يجدون المبررات التي يرونها قانونية، وهي ما يسمى صناديق الاقتراع.
ومن زاوية نظرية ، فالأمر صحيح ، أي أن الصناديق هي التي أوصلتهم إلى البرلمان والحكومة ، وأما وقد بدأت ” روائح ” بعض هؤلاء تتصاعد في الفضاء ، في البرلمان كما في الحكومة ، من خلال ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال ” تهدد ” ثقة المصوتين من أبناء الوطن ، وتؤكد ما كان تشكيكا في جدية المنتخبين وخدمتهم للوطن والمواطنين ، فإن درجة من الوعي بأسرار البرلمان والبرلمانيين صارت بارزة للبسطاء وعامة الناس كما المتخصصين.
وكما يعترف المواطنون بصناديق الاقتراع كآلية من آليات الديمقراطية ، نراهم يتساءلون عما تنتجه هذه الصناديق من ويلات بسبب طينة الفائزين الواصلين إلى الحكومة والبرلمان سواء أكانوا من الأغلبية أو من المعارضة ، خاصة في السنوات الأخيرة ، وبعد دستور 2011، وأصبحنا جميعا نتساءل : هل العيب في الصناديق أم في المصوتين أم في العازفين عن السياسة ؟ أين المثقفون والعلماء والشعراء والأدباء والمنخرطون في المنظمات والهيئات والجمعيات ؟ ألا يدلون بأصواتهم ؟ أفلا يميزون ؟ أفلا يعقلون ؟ أفلا يشعرون؟
والواقع أن ما يجري في السنوات الأخيرة تحت قبة البرلمان قد زاد عن حده ، وصار يهدد البلاد بداء فقدان ” المناعة السياسية ” … فمن حين لآخر نسمع كلاما بذيئا يصدر من رجال ونساء يفترض أن يكون الحياء باديا على وجوههم وناطقة به أفواههم ، ليس فضلا منهم ولا هدايا أو صدقات إلى المواطنين ، بل واجبا مفروضا عليهم ، وعلى كل من فكر في تحمل مسؤولية خدمة الوطن والمواطنين، فهذا المستوى المتدني الذي يتناسل يوما بعد يوم ، قد تجاوزه التاريخ ، ولم يعد ينطلي على الأطفال الصغار أمام تقدم الآلة الإليكترونية والمواد الدرامية والفكاهية التي لا تحتاج منا سوى نقرة عمرها ثوان معدودات ، في حين أن المسؤولين في الحكومة والبرلمان مازالوا خارج التغطية ويعتقدون أنهم أذكياء مرحون ، وهم بأفعالهم هذه صاروا أثقل على الناس من الأهرام ، و لم يعد المواطنون يكنون لهم الاحترام … وأما إذا أضفنا إلى هذا سوء تدبيرهم للأمور وانفراد أغلبهم بالقرار ، واعتقادهم بأنهم أكثر الناس فهما للأوضاع ، فإن ذلك ينبئ بإضراب الناس – والشباب خاصة – عن السياسة إضرابا .
وإذا كان واضحا تدني المستوى التعليمي والسياسي لبعض البرلمانيين ، وإن يكن بعض الوزراء في الحكومة الحالية والحكومات السابقة قد أبانوا عن جهل كبير بأحوال القطاع الذي يسهرون على تدبيره ، فإن ما كان غير منتظر أن تتحول قبة البرلمان إلى التراشق بالكلام الخارج عن اللياقة ،الذي يخدش الحياء ويحط من قيمة الوزراء والبرلمانيين على حد سواء ، بغض النظر عما إذا كانوا من المعارضة أو من الأغلبية ، وسواء أكانوا “ظالمين ” أم “مظلومين ” ، بحيث صرنا نرى ونسمع عبارات تجاوزها الأطفال الصغار وبحثوا عن غيرها في قاموس الإنترنيت ووسائله ، وقد بدا جليا أن كلا من البرلمانيين والوزراء يعدون العدة ، ويرتبون الكلمات ويصففونها استعدادا لسوق البرلمان ، وكأنهم ذاهبون إلى المشاركة في “سوق عكاظ” ، ينتظرون حكما مختصا في الهجاء كي يفوزوا ب”جائزة الفرزدق وجرير” ، ونسوا أن المواطنين ينتظرون قرارات تخفف من معاناتهم ،
وأخبارا تطمئنهم على مصير الأبناء في دراستهم وصحتهم وغذائهم …
وما يمكن أن نستنتجه من هذا “الرواج البائر ” في سوق السياسة المغربية ، أن ما يجري تحت قبة البرلمان لا يختلف كثيرا عما يجري في مجالات الحياة الأخرى ، إذ الفوضى والاضطرابات في التجارة والصناعة والفلاحة والسياحة والتعليم والصحة ، والنقل البري والجوي والبحري، وكلها تحولت إلى أسواق تعاني من أزمة ” الصناديق الفارغة ” ، والبحث الماراطوني عن ناهبي المال العام والعابثين بمصالح المواطنين …
وبنظرة عابرة إلى عدد الأحزاب والنقابات والجمعيات والهيئات والمنظمات والمؤسسات ، وما يختار لها مؤسسوها من أسماء براقة رنانة ، نعلم أن أحوالنا ، كما هي اليوم ، تسائل كل مسؤول في هذه القطاعات ، وتضعه أمام امتحان غاية في الصعوبة ، وذلك من خلال طلب واحد : عودوا إلى برامجكم وأحصوا ما حققتم لصالح الموطنين ، ثم أخبرونا…وأما وقد هرمنا من الانتظار ، فإن ما يجري تحت قبة البرلمان وفي الأوساط السياسية لا يمكن أن نسميه أكثر من ” تبرلمانيت ” التي لا تفهمها إلا إذا كنت برلمانيا ، والتي تستمد مشروعيتها من ” تمغربيت ” ….التي لا تفهمها إلا إذا كنت مغربيا.