انكب العديد من مفكري علم السياسة على الاشتغال على موضوعة الشعبوية بكل تجلياتها و انواعها، سواء في الديمقراطيات العريقة في أوروبا و أمريكا الشمالية -القائمة على المرتكزات الثلاث : الشعب و مبدأ الأغلبية و التمثيل، و بما تجسد هذه المرتكزات من حرية الإرادة في الانتخاب و التصويت و مؤسسات صنع القرار ، و حضور الآراء السياسية و تعبيراتها المتعددة من خارج المؤسسات و سيادة مجتمعية لقيم الحرية و العدالة – و سواء في الديمقراطيات الناشئة التي تتبنى مرتكزات الديمقراطية بشكل تدريجي كتجارب أمريكا الجنوبية و بعض التجارب الأسيوية و المغاربية. ولم تحظى التجربة الشعبوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنصيب من هذا الاهتمام الفكري نظرا لحداثة التجارب الشعبوية فيها.
وبرزت أسماء لهؤلاء المفكرين من أمثال روبيرت ميشيلز، ارنستو لاكلاو، شانتال موف، كارلوس ديلاتوري… وصولا الى ناديا أوربيناتي وعزمي بشارة والعديد من الأسماء الأخرى. وركز هؤلاء المفكرين على تفكيك الظاهرة الشعبوية مند كتاب ارسطو “السياسة” عندما تناول الديماغوجيا وتشعباتها وآثارها، مرورا بمكيافيلي وروسو وسبينوزا…، لكنهم كلهم ظلوا يدينون لفلاديمير لينين تنظيره وتفكيكه للشعبوية الروسية من موقعه كزعيم سياسي ومنظر إيديولوجي في كتابه” من هم أصدقاء الشعب وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين” الصادر عام 1894. وقد اجمع كل هؤلاء المفكرون على تثبيث قاعدة أساسية أن الشعبوية في الديمقراطيات العريقة لا تشكل خطرا بل حلقة في مسار تطور الديمقراطية ضمن المسارات التاريخية التي قطعتها، مما يفرض التفكير والتشخيص والتنظير للمرحلة القادمة التي يتطلبها شكل الديمقراطية. بينما تشكل خطرا حقيقيا على الديمقراطيات الناشئة في العديد من البلدان، قد تستدعي العودة إلى اشكال الاستبداد والفوضى وغياب المؤسسات.
في سياق هذا المقال، سأعمد إلى تشخيص تمظهرات الشعبوية المغاربية وأساليبها التي ظهرت للعلن،ما بعد مرور عقد من الزمن عن الربيع الديمقراطي في شمال إفريقيا الذي بدأ سنة 2011، وكيف تشكل الشعبوية المغربية خطرا على الدولة المغربية، وكيف تتلاقى مع الشعبويات المغاربية إراديا أو لاإراديا في استهداف المغرب وجبهته الداخلية و استقراره.
مثلت الشعبوية المغاربية رغم قصر عمرها، حالة خاصة ومتميزة عن مجمل التمثلات والنماذج التي طبعت الظاهرة الشعبوية في العالم. واستطاعت أن تبصم بقوة في المشهد السياسي المغاربي، بصور متفاوتة فيما بينها حسب كل قطر على حدة، لا من حيث زمن التبلور، ولا من حيث شكل وطبيعة الوجود الشعبوي، بسبب التباينات والاختلافات في الأنظمة السياسية ما بين هذه الأقطار.
فإن كان عمر الشعبوية المغربية يجايل بشكل كبير الشعبوية التونسية و يتجانس معها فقط في إحدى التمظهرات القوية سياسيا وآثارها في المشهد السياسي ، من خلال الشعبوية الدينية لكل من تجربة حزب العدالة و التنمية المغربي و حزب حركة النهضة التونسي، فإن التجربة السياسية التونسية و بفضل دور شعبوية حزب حركة النهضة وآثاره في المشهد السياسي، أفرزت في الخمس سنوات الأخيرة شعبويات أخرى كرد فعل على شعبوية حزب حركة النهضة ، تستحق الدراسة و التحليل، تجلت أبرزها في شعبوية رئيس الدولة الحالي قيس سعيد، كحالة فردية و فريدة من نوعها، تتقاطع رؤاه وسلوكياته و برامجه و حتى عمره الزمني السياسي مع الشعبوية الجزائرية التي تفجرت ما بعد الحراك الجزائري لسنة 2019، كشعبوية عسكرية بلباس مدني.
استثمرت الشعبوية الدينية المغربية، ممثلة في حزب العدالة والتنمية، كحزب خابر الحياة السياسية المغربية بشكل علني، وانخرط في المسلسل السياسي و الديمقراطي الوطني بما يستلزمه ذلك من مشاركة سياسية و تمثيلية انتخابية، وتقلد كل المواقع من أقلية معارضة في المؤسسة التشريعية إلى أغلبية متحكمة أوصلته الى دفة الحكم والقرار والتعيين وحاليا العودة الى موقع المعارضة من باب الأقلية، وهو امر عادي وطبيعي في الممارسات الديمقراطية التمثيلية عبر العالم، القائمة على تعدد الأحزاب و على تقلب المواقع وفق ما تستلزمه التعددية من تنافس و تنازع حزبي، استثمر حزب العدالة والتنمية كل القواعد المشتركة في الشعبويات العالمية بشكل آلي وواعي، حيث مارس السياسة من موقعين، الأولى من موقع الحزب كضرورة تنظيمية مفروضة عليه للانخراط في الممارسة السياسية والانتخابية مع العلم انه يمقت المؤسسة الحزبية و باقي المؤسسات الوسائطية بين “الشعب” شعبه والحكم، وثانيا من موقع حركة الإصلاح والتوحيد بما تمثل له من أصل فكري وروحي ومنبع لكل ما يعتنقه من أصول سلفية ومشاريع واستراتيجيات، لا يستطيع بالتنظيم الحزبي تحقيقها لما يفرضه واقع الممارسة السياسية على الحزب من ضوابط التحالف و التفاوض والمساومات. وهي ثنائية تتقاطع تاريخيا مع التجارب الفاشية التي وصلت الى سدة الحكم ولم تستطع ان تغير النظام السياسي بفضاضة، فعمدت إلى ملء مناصب المسؤوليات في الدولة والمؤسسات بأعضائها إلى حين التحكم والهيمنة.
اغتنم التيار الشعبوي الديني في المغرب، علاقة التوتر التي كانت قائمة بين الأحزاب التقليدية سواء المشاركة في الممارسة السياسية الرسمية أو التي كانت خارج هذه الممارسة والدولة، مما فسح المجال لتوغل الحركات الدينية الشعبوية في المجتمع المغربي مستغلة حضورها في المشهد الإعلامي والميداني في العديد من بؤر التوتر العالمي (افغانستان-فلسطين-إيران – مصر…)، و حجم التمويل الخارجي و الدعم اللوجيستيكي التي وفرته الحركة الوهابية، بالإضافة الى السماح لها بحرية الحركة و فتحت لها العديد من فضاءات لتمرير الخطاب و تسييده مجتمعيا. هذه الخلفية مكنتها من اكتساب جمهورها المتلقي و بناء شعبها الشعبوي، الذي سينتقل الى مرحلة المشاركة السياسية و ما يفرضه ذلك من بناء حزبي و بروز زعيم قادر على الخطابة و التجييش و الحشد وهم من الثوابت الضرورية في الخطاب الشعبوي.
شكل بنكيران زعيما لشعبوية حزب العدالة و التنمية، ووجها مقبولا لدى جمهور عريض من الشعب المغربي، نظرا لنوعية الخطاب الذي يمارسه، والذي يتسم بالبساطة و الدارجة و يزينه بالحكي و يقولبه بالقرآن و الحديث و يستملحه بالنكت و الحكايات و القهقهة و يستعمل أسماء رموز الدولة دون حفظ ألقابها و يستهدف النخب السياسية و يستعمل في حقها حقلا لغويا حيوانيا، و هو نوع من الخطاب لم يتعوده المغاربة في الخطابات الملكية ولا في خطابات زعماء الأحزاب السياسية المغربية، المحكوم شكلا ومضمونا بضوابط الخطاب العقلاني بكل ملابساته. وجد بنكيران في واقع الترهل والضعف الحزبي نتيجة أسباب ذاتية و موضوعية، و نتيجة ابتعاد الأحزاب اليسارية و اليمينية معا وانسلاخهم عن أدبياتها الفكرية والأيديولوجية و ارتهانها إلى الخطاب الوسطي، فرصة للانفراد بخطاب خاص اعتمد أسلوبي التربص من جهة و تصيد الأخطاء و الاختلالات في الممارسة السياسية سواء من طرف الأحزاب أو النخب السياسية من جهة أخرى جاعلا من القول الشعبي ” أولاد عبد الواحد واحد ” واقعا مرئيا.
لا يقف الزعيم الشعبوي في الشعبويات العالمية عن ممارسة الخطاب مناسبتيا، بل هو في عملية ظهور دائم في الفضاءات المتاحة سواء في الاعلام الرسمي مع هوغو تشافيز و برلسكوني و قيس سعيد، و سواء في مواقع التواصل الاجتماعي مع ترامب عبر تغريداته المتعددة او في القنوات الإعلامية غير الرسمية مع بابلو إيغليسياس عن حزب بوديموس و سانياغو أباسكال زعيم حزب فوكس في اسبانيا و بنكيران في المغرب، هذا الأخير الذي يقطن في الوسائط الاجتماعية عبر البث المباشر لخطاباته، يعي و يعلم أنه بهذه الخرجات المتعددة و التي لا تكلفه عناء التفكير و الاجتهاد، يمارس بشكل دائم عملية الاستقطاب الانتخابي، و في نفس الوقت يملأ الفراغ الذي تركته الحكومة الحالية بصمتها و حيرانها، و هو بذلك يطمئن شعبه النقي و الصالح أن الحزب و الحركة لم يتأثرا بكبوة انتخابات 8 شتنبر، التي هي من فعل فاعل يستهدف الزعيم المخلص المنقذ و شعبه الطاهر.
تتجلى خطورة الخطاب الشعبوي الديني بالمغرب بكونه خطاب يمهد الطريق للظفر بالسلطة و تستخدم إجراءات ديمقراطية لتخدم غايات غير ديمقراطية، و ما يجسده الخطاب البنكيراني من استهداف مباشر للممارسة الديمقراطية المغربية برمتها عبر تسفيه الممارسة السياسية وتمييعها و إضفاء طابع الفساد عليها و المتحكم فيها عن بعد و استهداف النخب السياسية و وصمها بكل النعوتات الفضفاضة من فساد و ريع و استرزاق ، و التركيز على جعل الأحزاب السياسية عدوا و ليس خصما، ودفعها إلى تبني الخطاب الشعبوي و هو الحال الذي سقط فيه حزب الاستقلال مع تجربة شباط و تم تداركها و يسقط فيه اليوم حزب الحركة الشعبية مع برلمانيها و خصوصا البرلماني محمد السيمو الذي تجاوز حدوده البرلمانية وبصفته كذلك رئيس جماعة ليتدخل في اختصاصات السياسة الخارجية في العلاقة مع منطقة القبائل الجزائرية و مطالبها، كما يستهدف الخطاب الشعبوي البنكيراني ضرب كل النضالات التي خاضها الشعب المغربي من أجل الديمقراطية عرض الحائط، وتجاوز دور المؤسسة الملكية باعتبارها الضامن للوحدة و الاستقرار من خلال إقناع شعبه الشعبوي انه الزعيم الخلاصي الذي أنقد المغرب من تداعيات الربيع العربي وضمن الاستقرار للبلد ، وأنه من حافظ عن الطابع الديني للدولة المغربية و خلع القداسة عن شخصية الملك في دستور 2011، واستقوى على القضاء في قضية متابعة احد أعضاء حزبه المتهم بقتل الطالب آيت الجيد بنعيسى عبر مقولته ” لن نسلمكم أخانا”.
لم تخرج الشعبوية الدينية التونسية عن هذا التوجه الشعبوي الديني المغربي، بل يمكن الجزم أنهما نسختان لأصل واحد فكريا، عقائديا ومذهبيا. غير ان تأثيرهما في السياق السياسي العام لكل بلد مختلف باختلاف الأنظمة السياسية بين البلدين. فقد لعب حزب حركة النهضة بقيادة رشيد الغنوشي طيلة عشر سنوات من عمر الجمهورية التونسية ما بعد بنعلي دورا محوريا في الحياة السياسية، حيث حضر في كل التحولات السياسية منذ حكومة الترويكا إلى حين حل مجلس النواب بقرار من الرئيس الحالي قيس سعيد ويحضر اليوم بقوة في حالة الاحتقان الذي تشهدها تونس.
لن يدخل المقال في مناقشة الوضع الداخلي التونسي ولا الجزائري بالتفصيل، لأنهما يحتاجان كل على حدة الى مقال خاص، بل سيقتصر المقال على خطورة الشعبويتين التونسية الجزائرية على الدولة المغربية.
لن يختلف أحد أن استقرار بلدان الجوار يشكل مرتكزا أساسيا في استقرار المغرب، إلا أن المتتبع للوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي التونسي يعلم بوضوح مدى حالة الاحتقان الخطير على المستويين السياسي والشعبي، والذي تتحمل فيه الشعبويات التونسية سواء الحزبية منها في شخص رشيد الغنوشي عن حزب حركة النهضة وفي شخص موسى عبير عن الحزب الدستوري الحر وفي شخص رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف، و سواء شعبوية رئيس الجمهورية قيس سعيد . وهو وضع تراكمي عاش فيه المجتمع التونسي على وقع الاغتيالات السياسية التي استهدفت كل من شكري بلعيد ومحمد الابراهمي، وعلى وقع التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي أنتج موجات من الانتفاضات والاحتجاجات اليومية ولا زالت إلى اليوم تدفع بالبلد إلى غياهب المجهول.
ظل المغرب حاضرا في الدهنية السياسية للشعبويين التونسيين، حيث سيخرج رشيد الغنوشي خرجة غريبة لا من حيث موقعه السياسي و الدبلوماسي كرئيس للبرلمان التونسي، و لا من حيث ما يفرضه منطق التاريخ و الجغرافية السياسية لشمال إفريقا، يدعو من خلالها إلى مبادرة تأسيس اتحاد المغرب العربي بدون المملكة المغربية و الجمهورية الموريتانية، و هي خرجة طبعتها الشعبوية و الوعي الشقي الاخواني، كان يهدف من وراءها انطلاقا من النزعة الفردانية و الشعبوية و النفسية المتضخمة التي تطبع الزعيم الشعبوي، البحث عن موقع قدم في الأزمة الليبية و لعب دورا محوريا فيها، من باب دعم التوجه الاخواني الليبي المتحالف مع تركيا قصد الهيمنة و التحكم في المستقبل الليبي، و في نفس الوقت التقرب إلى الدولة الجزائرية عبر عرقلة مخرجات حوار المصالحة الليبي بالصخيرات الذي أشرف عليه المغرب بدعم من الأمم المتحدة.
لم يقف أمر الغنوشي عند هذا الحد، بل ظل متربصا بالمملكة المغربية وقراراتها السيادية، حيث انتقد عودة العلاقات المغربية-الإسرائيلية معتبرا إياها “خروجا عن الإجماع العربي”، وهو انتقاد اعتبر أخف من انتقاده لعودة العلاقات الإماراتية-الإسرائيلية التي وصمها بكل الاوصاف التخوينية، لسببين معلومين: أولهما ان عودة العلاقات المغربية الاسرائلية وقع عليها حليفه التاريخي زعيم حزب العدالة والتنمية المغربي وهو حزب إخواني بامتياز، في شخص أمينه العام السيد سعد الدين العثماني من موقعه كرئيس للحكومة المغربية. وثانيها حجم العداء الذي يكنه تنظيم الاخوان المسلمين لدولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها حاملة لمشروع نقيض لهم في المنطقة.
لم يقتصر العداء الشعبوي التونسي للمغرب فقط في شخص زعيم حزب حركة النهضة، بل سيمتد إلى قمة الهرم السياسي للدولة التونسية في شخص رئيسها قيس سعيد. حيث وصلت العلاقات الدبلوماسية المغربية التونسية في عهده إلى أوج أزمتها، بعد سلسلة من الإشارات السلبية التي وجهها للدولة المغربية منذ حملته الانتخابية الرئاسية. لقد اختار الرئيس قيس سعيد بمنطق شعبوي محض التخلص من كل الأعراف والأدبيات الدبلوماسية التونسية منذ الاستقلال المرتكزة على الحيادية و عدم التورط في النزاعات و الصراعات و التقاطبات الإقليمية، بناء توجه شخصي في السياسة الخارجية لا يختلف مطلقا عن قراراته الداخلية البعيدة عن الأعراف السياسية، يناقض الثوابت في العلاقات الدولية، ومن بينها ثابت أساسي أنه في السياسة الدولية قد يكون مد اليد إلى صديق قديم مجديا بمقدار ما تعود عليه الصداقات الجديدة بالنفع.
اختار قيس سعيد بوعي تقويض العلاقات التونسية-المغربية وتأزيمها، عندما استهدف بالمباشر وبدون موافقة النخبة السياسية التونسية التقليدية، مس أولوية السياسة الخارجية المغربية المرتكزة على قدسية الوحدة الترابية للمملكة، ورفض أي ابتزاز خارجي يقوم على المس بها. فعمد إلى استقبال زعيم جبهة البوليساريو استقبال رجال دولة، وبدعوة مباشرة من قيس سعيد لحضور قمة اليابان للتنمية في إفريقيا والتي احتضنتها تونس، مما دفع بالوفد المغربي إلى الانسحاب من القمة واستدعاء سفير المغرب واصدار وزارة الخارجية بيانا واضحا في الموضوع.
لم يكن الاستفزاز الشعبوي التونسي للمغرب دبلوماسيا محض صدفة، بل جسد علانية التحالف والتقارب الشعبوي التونسي-الجزائري على حساب المصالح الإقليمية برمتها. وفي نظري هو تقارب موضوعي نتيجة تقارب الشعبوية وأهدافها في البلدين المرتبط أساسا بالوضع الداخلي المأزوم والرغبة في تصديره إلى خارج الحدود من جهة، وهو تقارب كذلك لا يختلف عن التقاربات الواقعة بين الحركات والأحزاب وحتى الزعامات الشعبوية على المستوى الدولي من جهة ثانية.
تزعمت الشعبوية الجزائرية في عهد عبد المجيد تبون والجنرال السعيد شنقريحة نهج العداء المطلق والصبياني اتجاه الدولة المغربية، عبر تبني فكرة جوهرية في الأدبيات الشعبوية وهي نظرية المؤامرة، كنظرية الالتفاف حول واقع الأزمة التي يتخبط فيها النظام السياسي الجزائري في مواجهة المطالب الجماهيرية التي رفها الحراك الجزائري لسنة 2019 وعلى رأسها بناء الدولة المدنية ضدا في الدولة العسكرية القائمة منذ استقلال الجزائر، والتخلص من هيمنة النخب الفاسدة و معها اللوبي الاقتصادي و توابعه من التنظيمات السياسية والنقابية، وبناء أسس الديمقراطية الحقيقية القائمة على التعددية والتمثيل وسيادة ثقافة حقوق الانسان ومحاسبة ناهبي المال العام، و الحق في التنمية الاقتصادية في دولة غنية بالنفط والغاز.
سعى الخطاب الشعبوي الرسمي في الجزائر منذ تولي عبد المجيد تبون ومن وراءه المؤسسة العسكرية الى تبني خطاب اقتصادي داخلي كعملية تمويهية لتجنب الحديث عن مطالب الإصلاح السياسي، وإلى تبني خطاب مؤامراتي فريد من نوعه يتهم في كل رسائله المملكة المغربية كعدو أساسي للجزائر و انها مصدر كل الفتن و المصائب الداخلية وصلت في حد البلاهة إلى اعتبار حرائق الغابات في المناطق الغابوية الجزائرية مؤامرة مغربية ضدهم.
فبدل نهج أسلوب الحوار والتفاوض مع المغرب، بعد كل الرسائل التي وجهها المغرب لهم لطي صفحة الخلاف، من خلال خطابي العرش لسنتي 2021 و2022 والذي جاء فيهما على التوالي: “خاصة أنه لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا، مسؤولين على قرار الإغلاق. لكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا، على استمراره؛ أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام مواطنينا” و”إننا نتطلع، للعمل مع الرئاسة الجزائرية، لأن يضع المغرب والجزائر يدا في يد، لإقامة علاقات طبيعية، بين شعبين شقيقين، تجمعهما روابط تاريخية وإنسانية، والمصير المشترك” مما يعني ذلك كله من إرادة سياسية مغربية على وضع كل الخلافات ومتتبعاتها على طاولة المفاوضات قصد إيجاد حل إيجابي يكون منطلقا لمرحلة جديدة بين البلدين.
نجد القيادة الشعبوية في الجزائر بعيدة كل البعد عن قيادة دولة من حجم الجزائر وتاريخها وإمكانياتها، التي تتطلب من هذا الموقع النظر إلى العلاقة بين البلدين من منظور شامل يستحضر أهمية الدولتين الكبيرتين والمركبتين رغم اختلاف نظاميهما السياسي، لكن مستقبل اقتصاديهما وشعبيهما مترابطين جدا، وخصوصا في المرحلة الراهنة في ظل متغيرات جوهرية ومصيرية على مستوى تطور الاحداث الدولية، والمخاطر القادمة من دول الساحل وجنوب الصحراء ولا من حيث الوضع غير المستقر في كل من ليبيا وتونس.
إن محاولة إضعاف المغرب و العداء له عبر تحالفات شعبوية بين الجزائر وتونس، قد تجد لها موقعا مريحا ومدخلا ميسرا لها في حال حققت الشعبوية المغربية أهدافها في قتل السياسية واستهداف النخب السياسية والأحزاب السياسية والرموز الوطنية ومعها هدم المسار الديمقراطي المغربي برمته، والذي راكم ما يمكن مراكمته من إيجابيات ومكتسبات وأظهر في مساره معالم الضعف التي يتطلب العمل على تجاوزها، تكون الشعبوية بذلك قد هدمت أي مقومات للجبهة الداخلية كصمام أمان أمام أي تهديد خارجي.